“كريم” الطفل الشاهد على مجزرة مخيم جنين
ينهض الأطفال في كل صباح، مغمورين بمشاعر الفرح والسعادة للتوجه لمدارسهم ورياض الأطفال، باستثناء أطفال مخيم جنين شمال الضفة الغربية، والذين اعتادوا على حياة مختلفة أصبحت مفروضة عليهم أمام سرقة الاحتلال لفرحتهم وطفولتهم وأحلامهم وتهديداته لحياتهم حتى داخل منازلهم.
اعتاد الأطفال في المخيم على الاستيقاظ بشكل شبه دائم مذعورين على صوت أزيز الرصاص واقتحام منازلهم والتنكيل بأسرهم، لتلازمهم الصور المؤلمة والقاسية والذكريات التي تنغص عليهم، ويشكل الطفل كريم أحمد شقفة الشاهد على مجزرة الخميس الأسود، نموذجاً لهذه المأسي التي لا تنتهي والتي يروي تفاصيلها يومياً على مسامع الجميع.
“خفنا بس ما خوفونا “.. العبارة التي رددها ببراءة وشجاعة الطفل كريم أحمد شفقة 5 سنوات، خلال حديثه لـ “القدس” دوت كوم، عن لحظات الرعب والخوف التي عاشها وأسرته خلال اقتحام قوات الاحتلال لمنزلهم في حي “جورة الذهب “، والملاصق مباشرة لمنزل عائلة الشهيد علاء الصباغ الذي قصفته قوات الاحتلال بقذائف “الأنيرجا”، وأحرقته ودمرته مما أدى لاستشهاد ثلاثة مقاومين بعدما خاضوا معركة عنيفة أثناء مجزرة مخيم جنين يوم الخميس قبل الماضي، كما دمروا دكان والده المحاذي للمنزل المستهدف والذي يعتبر مصدر عيشه الوحيد.
المشاهد الصادمة ..
فور وصول طواقم الصحفيين للموقع الذي استهدفه الاحتلال، تطوع الصغير كريم، ليشرح ما جرى بدون خوف أو تردد، عن مشاهد اللحظات الفظيعة التي مرت بها أسرته على مدار أكثر من ساعة، وقال وهو يتنقل بين آثار العدوان، متحدثًا بلغته البسيطة التي تعبر عن طفولته: “كنت نايم، وقعدت لما سمعت صوت رصاص الجيش وانفجار، سمعت أمي بتصيح بصوت عالي، وبسرعة زحفت على الأرض وجرتني أنا وخواتي جوه الغرفة .. سمعنا رصاص كثير واحنا متخبيين وأمي بتدعي عشان ربنا يحمينا، وشوف كيف الرصاص دخل دارنا”حيث كان يشير حينها لآثار الرصاص الذي أصاب مناطق متفرقة من المنزل.
وأضاف الطفل كريم: “شوف قديش الرصاص كثير، كمان صاب باب الغرفة اللي كنا فيها، كانوا بدهم يموتونا، ما خلونا نروح على الروضة أنا وأختي شام، وظلينا محبوسين وأمي تصلي وتحمينا .. بس إحنا خفنا وما خوفونا”.
أطفال لا يخافون ..
عبارة الطفل كريم القصيرة، وبمعانيها الكبيرة أوقفت جميع الصحفيين، لكن قطع والده مشهد الصمت وعانق طفله بفخر واعتزاز وهو يبتسم وقال لـ “القدس” دوت كوم: “هؤلاء هم أبناء وأطفال المخيم، ولدوا وعاشوا ونشأوا تحت القصف والحصار والمجازر والرصاص، لذلك تغيرت حياتهم وأصبحت معنوياتهم كبيرة ووعيهم وادراكهم أكبر من سنهم .. أطفالنا الذين يشاهدون كل يوم مجازر الاحتلال وجثامين الشهداء، ويسمعون القصص المروعة، مات الخوف في قلوبهم، ولم يعودوا يخشون الاحتلال، وابني عبد الكريم رغم صغر سنه، عبر ببراءة عن مشاعر كل انسان في المخيم .. لم أسمع عبارته سابقاً، ولم يوجهه أحد، لكنه شاهد الموت والرصاص ودموع ورعب والدته، ثم شاهد الجنود يقتحمون منزلنا وينشرون الرعب، وبعد كل هذه الصور، قال بإرادته الحرة ما خوفونا .. وهذا حالنا جميعاً، لا نخاف الاحتلال مهما مارس من قمع وعدوان”.
صور ووقائع ..
صاحب المنزل ، المواطن الثلاثيني أحمد شفقة الذي عاش كوابيس رعب لخوفه الشديد، لأنه لم يكن موجوداً مع أسرته لحظة استهدافها، لكنه قضى الوقت مع زوجته عبر الهاتف الخلوي، يتحدث إليها، محاولًا شد أزرها، يقول: “نعتاش وأسرتي المكونة من 5 أفرادر، من دكانتي الملاصقة لمنزل عائلة الصباغ، وقد غادرت المنزل مبكراً، للتزود باحتياجات المتجر من حسبة جنين، وعندما سمعت بمهاجمة حارتنا، واحتلال الوحدات الخاصة للمنازل واطلاق الرصاص، اتصلت بزوجتي للاطمئنان عليها، وتزايد خوفي وقلقي، عندما سمعتها تصرخ وتقول لي رصاص جنود الاحتلال دخل البيت، الحقنا راح نموت، فركزت على رفع معنوياتها والاتصال على الصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان للتوجه للمخيم وانقاذ أسرتي وغيرها من العائلات المحاصرة”.
ويضيف: “في المقابل وبالحقيقة، شعرت بانهيار ورعب لعجزي عن الوصول اليهم، فكل الطرق كانت مغلقة، بعدما حاصر الاحتلال المخيم وأغلق جميع مداخله، وكانت هذه أصعب لحظات حياتي وأخطرها، فلا يوجد أسوأ من العجز خاصة عندما يتعلق الأمر بأسرتك وأطفالك”.
لحظات مروعة ..
بالعودة لبداية المشهد، بعدما تسللت الوحدات الخاصة وجنود الاحتلال للمخيم حوالي الساعة السابعة من صباح الخميس، لم تعلم عائلة شفقة بالهجوم إلا بعد اكتشاف الكمين واندلاع المواجهات بين المقاومين وقوات الاحتلال التي حاصرت منزلها دون أن تعرف.
وتقول المواطنة أم كريم لـ “القدس” دوت كوم، أنها نهضت كعادتها مبكراً لتجهيز أطفالها للروضة، وفجأة سمعت صوت انفجار ورصاص في محيط منزلها، ولم تكن تعلم بمحاصرة الحي ومنزل عائلة الصباغ المجاور واستهدافه، وكانت كل ما تفكر به فقط حماية أطفالها، وسط الخوف الذي كان يتملكها عند كل صوت انفجار، وأن ما صدمها بشكل أكبر إطلاق النار بكل مباشر على منزلها.
نجونا من الموت بأعجوبة..
في وقت كانت تتوجه فيه “أم كريم” لإحياط المياه لأطفالها، كادت أن تدفع حياتها ثمنًا بدون أي سبب، وتقول: “كنت أتواجد مع أطفالي فقط، وقبل الوصول لحنفية المياه، انهمر الرصاص بغزارة من نافذة المطبخ المطلة على المدخل الخلفي داخل المنزل، وبفضل الله نجوت من الموت، وزحفت أرضًا مع أطفالي حتى وصلنا لغرفة النوم، واختبأنا داخلها حتى طرق الجنود بابنا”.
وتضيف: “لا توجد كلمات تعبر عن حالتي في تلك اللحظات، فلم يكن مبرر لإطلاق النار الذي زادني رعباً وخوفاً على أطفالي، وفوجئت باقتحام الجيش لمنزلنا، وهم يشهرون أسلحتهم بعدما أصاب رصاصهم الجدران والأجهزة الكهربائية .. احتجزونا وحققوا معي حول المتواجدين واحتجزونا ثم انسحبوا، بعدما فقدت أعصابي بسبب ممارساتهم التعسفية بحقنا، فما حدث جريمة كبيرة، وما زلت أعيش كوابيس مستمرة كلما تذكرت صور الموت الذي طاردنا في كل لحظة”.
نتائج كارثية ..
خلال القصف، خسرت العائلة متجرها الذي يعتبر مصدر معيشتها الوحيد، وبحسب شفقة، القصف الاسرائيلي أدى لهدمه على جميع محتوياته، وتجاوزت خسائره 20 ألف شيكل، لكن الأخطر بالنسبة له كما يقول: “تدمير حياتي، فبعد المجزرة، عدت لنقطة الصفر، بعد أن فقدت رأس مالي، لكنني سعيدًا، لأن رب العالمين أنقذ أسرتي وكرمني بمنحها حياة سعيدة، فشعبنا دومًا ينقض من تحت الأنقاض والدمار ويكمل مشواره”.