طاهر زكارنة.. عريس فلسطين
“هنيئًا لي لقب أم الشهيد .. إن شاء الله ملتقانا في الجنة يا روح أمك”.. هذه هي العبارة التي كتبتها المواطنة آيات زكارنة، على صفحتها الخاصة في تطبيق “فيس بوك “، والتي تحولت منذ ارتقاء بكرها الشاب طاهر محمد زكارنة (19 عامًا)، شهيدًا برصاص الاحتلال على أرض بلدتها قباطية جنوب جنين، عنوانًا للتعبير عن هواجسها ومشاعرها الممزوجة بين الحزن والوجع والصدمة، والفخر والاعتزاز، برفيق دربها الذي منحته كل حياتها وكافحت لتزفه وتراه عريسًا، حتى حكم رصاص الاحتلال على أحلامها بالإعدام.
لم تتوقف والدة الشهيد زكارنة عن رثاءه ومناجاته ونشر رسائله وصوره وذكرياته، وفي كل لحظة لا يتوقف لسانها عن الحديث عنه والتضرع لرب العالمين ليتقبل شهادته ويصبر قلبها المسكون بوجع أبدي على فراقه، عبرت عنه بالقول “هناك أوجاع تعيش في قلوبنا .. لذلك وأمام صدمات الغياب القسري، نحتاح لأكثر من قلب لنتحمل كل هذا الفقد الذي لن يتوقف حتى نجتمع مرة أخرى”.
عريس فلسطين ..
لا يكاد يخلو موقع أو زاوية قس منزلها من صور طاهر “عريس فلسطين “كما تسميه والدته، والذي أنجبته بنفس يوم عيد ميلادها بتاريخ 22/5/ 2003، ليكون البكر على رأس شقيقين يشاطرنها الحزن واللوعة على فراقه المبكر، وتقول: “منذ صغره، تميز في كل صفاته وسلوكه ومناحي حياته، صاحب إشراقة ونور لا يفارق وجهه الجميل، مطيع ووفي وبار، خلوق واجتماعي ونشمة وشجاع، محب للناس ولم ينقطع يوماً عن الصلاة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم”.
وأشارت إلى أنه في ظل ظروف الحياة الصعبة لم يكمل تعليمه، وأنهى الصف التاسع وتحمل المسؤولية ليكون سندًا لها، حيث عمل في عدة مهن في قباطية والداخل، ولم يكن يقصر معنا يومًا، وتمتع بروح وطنية وحب لوطنه وشعبه.
تجربة الاعتقال ..
رغم صغر سنه، شارك طاهر في مقاومة الاحتلال الذي اعتقله بسن 17 عامًا، دون مراعاة سنه، وخاض غمار تجربة التحقيق والأسر، وقد كان كما ذكر رفاقه خلف القضبان “رجلاً وبطلاً ومناضلاً، لم يهاب السجن ولم تنال ظروفه من عزيمته ومعنوياته”،وتقول والدته” فجر تاريخ 25/12/2020 اقتحموا منزل جده في قباطية، واعتقلوه واقتادوه لأقبية التحقيق التي عانى فيها الكثير، عانيت وبكيت لخوفي عليه لصغر سنه، لكنه كبر وأصبح رجلاً، صمد وتحدى الاحتلال الذي حكمه بالسجن الفعلي لمدة 8 شهور قضاها في سجن النقب الصحراوي ، حتى تحرر، وبعدها أكمل مشواره النضالي بشكل سري، لم أكن أعلم بنشاطه ومشاركته في مقاومة الاحتلال حتى استشهاده”.
صور ومواقف ..
تقاوم أم طاهر دموعها، وهي تحدق بصوره وتستعيد الصور والذكريات من محطات حياته، وتقول: “في كل لحظة أراه أمامي، لا أستطيع نسيان ابني وفلذة كبدي الذي لم يكن يتأخر يوماً عن تلبية طلباتي، وعندما يغادر للعمل، يحرص على الاتصال بي والاطمئنان على أوضاعي .. علاقاتنا كانت وطيدة، ولم تكن فقط أم بولدها، بل إخوة وأصدقاء، فلم يكن يخفي عني أي شيء من حياته، لكن لخوفه على مشاعري وقلقي عليه، علمت بعد استشهاده أن السر الوحيد الذي كتمه عني انضمامه للمقاومة وكتيبة جنين ومشاركته في التصدي للاحتلال خلال اقتحام قباطية، فازددت اعتزازاً ببطلي عندما سمعت قصص بطولاته من رفاقه وأهالي قباطية”.
مقاومة وبطولة ..
يروي رفاق طاهر، أنه كان من مجموعات قباطية التابعة لكتيبة سرايا القدس، وبعد تحرره من السجن، أصبح صاحب نشاط ومشاركة أكبر في التصدي والمقاومة، فكان يتقدم الصفوف ويشتبك مع الاحتلال بشكل مباشر ، ونشرت عبر مواقع التواصل مقاطع فيديو ظهر فيها يهاجم دوريات الاحتلال من نقطة صفر بجرأة وشجاعة لم تعلم بها والدتها أو تراها إلا بعد استشهاده.
يوم الاستشهاد ..
خلال أحاديثه مع والدته، كان طاهر يردد دومًا أنه يتمنى الشهادة، لكنها اعتبرت ذلك حديث عادي بسبب غضبه وتأثره من جرائم الاحتلال، لكنه كان يسعى إليها حتى حظي بها في تاريخ 5/9/2022.
وتقول الوالدة أم الطاهر: في نفس الليلة، اتصلت به عدة مرات للاطمئنان عليه بعدما علمت باقتحام الاحتلال لقباطية، وكان قد وصل لباب منزلي 3 مرات ، ويعود بسبب الاتصالات التي تتوارد إليه من أصدقاءه، ولم أكن أعلم أنهم يدعونه للمواجهة والتصدي للاحتلال، ولأول مرة منذ سنوات لم أراه في ذلك اليوم نهائيًا، وإنما سمعت صوته فقط عبر الهاتف، وهو يطمئنني ويدعوني لعدم القلق، حتى كانت الصدمة الكبيرة والفاجعة التي لم أصدقها في ساعات الصباح الباكر، حين استيقظت من نومي مبكرًا وشعرت بشيء غريب واحساس مؤلم وكان قلبي ينبض بسرعة وتوتر، وتصفحت شبكات التواصل فشاهدت صور لشبان أصيبوا بالرصاص وكان بينهم جريح تعرض لرصاصة في الرأس مباشرة حتى انتابني إحساس أنه طاهر.
تعجز الكلمات عن وصف حالة أم طاهر ، بعدما انتابتها لحظة ذعر وقلق وابنها لا يرد على هاتفها، ومشاعرها تخبرها أنه حبيب قلبها، حتى تلقت خبر استشهاده من شقيقتها، وتقول: “كنت أرى أمهات الشهداء وهن يبكين على أولادهن فأموت حزنًا وقهرًا، وأبكي وأتألم كثيرًا، فكان الوجع والصدمة والألم الأكبر أنني أصبح والدة شهيد، وعلمت تمامًا مدى الحزن والألم لفقدان ابني وفلذة كبدي”.
في ذلك اليوم، شارك طاهر بمواجهة الاحتلال خلال اقتحام قباطية، ويقول رفاقه “استبسل خلال المواجهات وتنقل من منطقة لأخرى حتى رصده قناص وأطلق النار عليه فأصابه برصاصة في الرأس وأخرى في القدم اليمنى وثالثة في الفخذ الأيسر، وأدخل على إثرها إلى غرفة العمليات لكنه استشهد متأثرًا بجروحه البالغة.
تقول والدته أنها ودعته عريسًا من أجل القدس وفلسطين، رغم أن الصدمة قوية ولم تتوقع أن يكون في يوم من الأيام شهيد.
وتضيف: “كل يوم، اشتم رائحة ملابسه وأرى رسائله لي ولازلت احتفظ بها لتصبرني، فهو سيبقى في ذاكرتي ولم تذهب صورته لليوم منها ولن تذهب”.
قبل أيام، وبعدما أكمل خمسة شهور على استشهاده، كتبت الوالدة آيات رسالة جديدة له قالت فيها: “خمس شهور، وأنا مش مستوعبه غيابك عني، بقعد اتلفت بالشوارع يمين شمال ألمح صورتك فيها، وبسير أحكي هذا طاهر وتطلع مش انت، بكل شهيد بشوف تفاصيل عنك، شو السر اللي بينكم وبين ربنا حتى اصطفاكم عندو، الله يجمعني فيك يا ضي عيوني انت، شو اشتقتلك واشتقت لتفاصيل وجهك والخجل اللي بعيونك”.