في أزمة أوكرانيا “فورين أفيرز”: خوف دول الشرق الأوسط من روسيا سيجبر بايدن على تغيير حساباته
نشرت مجلة “فورين أفيرز ” الأمريكية، مقالا لمارتن إنديك، الزميل في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ومؤلف كتاب “استاذ اللعبة: هنري كيسنجر وفن الدبلوماسية في الشرق الأوسط”، أشار فيه إلى أثر فك أمريكا علاقاتها مع الشرق الأوسط، وما تكشفه أزمة أوكرانيا عن الشرق الأوسط. وقال فيه إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قامت بجهد تشكر عليه لبناء جبهة أوروبية موحدة ضد روسيا وحشودها العسكرية على الحدود الأوكرانية، وبعد تردد أكدت ألمانيا على وقوفها مع الأمريكيين وحلفائهم.
وفي منطقة الباسيفيك عبرت اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا عن دعم للموقف الأمريكي. أما الهند والبرازيل فقد وقفتا موقف المتفرج، وحصل بوتين على دعم الصين في حملته لمعارضة توسع حلف الناتو.
أما في الشرق الأوسط، فقد استفاقت امريكا على مفاجأة. فحلفاؤها متعاطفون مع أوكرانيا ومجبرون على دعم أمريكا لكنهم لم يعبروا عن استعداد لاتخاذ مواقف ضد روسيا. وتعكس هذه المواقف، القرار الذي اتخذه باراك أوباما وتبناه دونالد ترامب ويطبقه بايدن الآن وهو وضع الشرق الأوسط في أدنى قائمة السياسة الخارجية الأمريكية.
وخفضت الولايات المتحدة توقعات شركائها من راعيتهم، وعليها الآن التكيف مع التداعيات. ولمعرفة كيف تغيرت الأمور، فما عليك إلا النظر إلى حليفة واشنطن الأقرب في الشرق الأوسط، إسرائيل. ففي منتصف كانون الثاني/ يناير عقدت الولايات المتحدة جولة من المحادثات مع إسرائيل، تركزت بشكل كبير حول طموحات إيران النووية التي تحاول أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون دفعها للعودة إلى الاتفاقية النووية الموقعة في عام 2015 وألغاها ترامب عام 2018.
ورغم الجهود التي تقوم بها إدارة بايدن للضغط على موسكو لم يذكر البيان الختامي عن المحادثات اسم أوكرانيا، بل والتزمت إسرائيل الصمت القاتل منذ بداية الحشود العسكرية الروسية الخريف الماضي، باستثناء عرض رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت التوسط بين روسيا وأوكرانيا، وهي فكرة رفضتها موسكو بشكل قاطع. وقبل فترة خالف وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد الموقف الأمريكي من أن الغزو الروسي بات محتوما. وناقش بينيت مع بايدن في مكالمة هاتفية بداية شهر شباط/فبراير موضوع أوكرانيا، إلا أن البيان الصحافي عن المكالمة أكد على التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل دونما ذكر لأمن أوكرانيا.
وتقيم إسرائيل علاقات قوية مع أوكرانيا وبخاصة الجالية اليهودية هناك التي يبلغ تعدادها 300 ألف شخص. والرئيس الأوكراني فولدمور زيلنسكي هو يهودي. وكانت هذه الرابطة كافية لتأكيد دعم إسرائيل للولايات المتحدة في موقفها من روسيا والتزامها بالحفاظ على النظام الليبرالي الدولي الذي استفادت منه إسرائيل وتفاخرها بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وانشغالها بتأمين حدودها الصغيرة من القوت المعادية. لكن نفس المعلقين الإسرائيليين الذين ناقشوا أنه يجب ألا يكون هناك خلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل عندما يتعلق الأمر بأمن الأخيرة يطالبون بحيادية إسرائيل في مسألة أوكرانيا.
وفي منطقة الخليج، فالكويت هي حليف أقل للولايات المتحدة بقدر ما تتسم علاقاتها بالتبعية، ومنذ تحرير الولايات المتحدة الكويت من مخالب صدام حسين في 1990-1991 فقد دعمت كل أولويات واشنطن في الشرق الأوسط والأماكن الأخرى.
وعلى كل دول المنطقة، والكويت بالتحديد أن تكون حساسة لمخاطر قبول المجتمع الدولي بغزو دولة قوية لجارتها الأصغر. ولكن عندما زار وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر محمد الصباح واشنطن في منتصف كانون الثاني/يناير للمشاركة في الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة بحضور وزير الخارجية أنتوني بلينكن، حاول الدبلوماسي الكويتي جهده تجنب الموضوع. ومثل البيانات التي صدرت عن لقاءات الأمريكيين مع الإسرائيليين، لم يكن هناك ذكر لأوكرانيا في البيان الختامي.
وذكر بلينكن بالمؤتمر الصحافي نظيره الكويتي بالرهانات العالية في أوكرانيا “لا يمكن أن تغير دولة حدود دولة أخرى بالقوة”. لكن الوزير الكويتي تجنب الحديث عن هذه النقطة في رده.
وبنفس المقام سكت حلفاء أمريكا بالمنطقة. فمصر الحليف الإستراتيجي القديم للولايات المتحدة والتي تنتفع من السخاء الأمريكي، وتشتري السلاح الروسي وبحاجة لموسكو من أجل استقرار الجارة ليبيا، لم تعبر هي الأخرى عن اهتمام باتخاذ مواقف ضد بوتين وتحركه في أوكرانيا، وبخاصة في هذا الوقت الذي قررت فيه إدارة بايدن تعليق 130 مليون دولار من المساعدة الأمريكية السنوية لمصر لأن هذه لا تريد السماح لمواطنيها بممارسة حياتهم بحرية.
وبنفس السياق فالتكتيات التي يمارسها الديكتاتور عبد الفتاح السيسي تشبه تلك التي يستخدمها بوتين وعلى تضاد مع القيم الأمريكية التي تحاول إدارة بايدن يائسة إقناع الديكتاتور بتبنيها.
وتعتبر السعودية حليفا قويا وثابتا للولايات المتحدة في عمليات احتواء الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط واستخدمت قدراتها الضخمة لإنتاج النفط وزيادته كلما طلبت منها واشنطن لتخفيض أسعار. وفي الأزمة الأوكرانية لم تتعاون السعودية، على الأقل في الوقت الحالي. فقد دفع السوق النفطي العالمي المقيد- الإنتاج السريع أكبر من المتوقع بسبب الانتعاش من وباء كوفيد- 19 وما يمكن أن تخلقه الأزمة الأوكرانية من أثر على الطلب أسعاره إلى 90 دولارا للبرميل.
ولو غزت روسيا أوكرانيا فقد يرتفع سعر البرميل إلى 120 دولارا. وهذه أخبار سيئة لبايدن الذي يحاول الحد من التضخم في الاقتصاد الأمريكي وقبل الانتخابات النصفية نهاية العام الحالي. لكن السعودية تبدو غير مكترثة لنداءات حليفتها الأمريكية. وواحد من الأسباب هو غضب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الطريقة التي عاملته فيها إدارة بايدن. وخلال الحملة الانتخابية في 2020 أشار بايدن إلى السعودية بـ”المنبوذة” وبعد وصوله إلى البيت الأبيض عام 2021 تجاهل محمد بن سلمان كثمن على أمره بقتل الصحافي في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي.
ورغم توقف بايدن عن معاقبته إلا أنه رفض التعامل معه، وكلف وزير دفاعه لويد أوستن بالمهمة. وبعد عام على هذه المعاملة قرر بن سلمان إلغاء زيارة لأوستن إلى السعودية في أيلول/سبتمبر الماضي وقبل يوم من الزيارة. وبحسب عدد من مسؤولي الإدارة فهم ينتظرون مكالمة من الرئيس قبل الرد على مطالبه. ولن يرفع بايدن سماعة الهاتف بدون مواجهة تداعيات سلبية من التقدميين في حزبه وفريق التحرير في صحيفة “واشنطن بوست”. وليس من الواضح إن كان بن سلمان سيرد بطريقة إيجابية عند ذلك. فروسيا تحوم بشكل كبير في حساباته بطريقة لم تكن واضحة للسعودية قبل عقود.
وتنتج روسيا نفطا بمقدار ما تنتجه السعودية وأصبح لها دور قيادي في أوبك+ وهي المنظمة للدول المنتجة والمصدرة للنفط التي تحدد حصص الإنتاج لكل دولة وتتحكم بأسعاره. وكانت السعودية تقود اوبك لكنها وقبل بداية الوباء عام 2020 خاضت حرب أسعار مع روسيا أدت لتدهور سعر البرميل إلى صفر. وتدخل ترامب وتوسط في حل بين السعودية وروسيا وحدد أسعار النفط جعل من موسكو شريكا في اللعبة. والرد على بايدن يعني كسر محمد بن سلمان اتفاقه مع بوتين والتخلي عن أرباح زيادة أسعار النفط التي يحتاجها لتحقيق مشاريعه الطموحة.
وفي الماضي لم تكن السعودية لتتردد في تنفيذ طلب حليف معتقدة أن هذا ضمان بأن الولايات المتحدة ستكون إلى جانبها ساعة الشدة. ولكن العهد انهار في عام 2019 عندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية للهجمات الإيرانية وأدت لوقف 50% من انتاج النفط. وبدلا من المسارعة لنجدة السعودية قال ترامب إن الهجوم كان على المملكة وليس الولايات المتحدة، ولو كان يريد التدخل فعلى السعودية دفع الكلفة. وترافق تردد ترامب وعدم احترامه للحلف التقليدي مع قرار باراك أوباما عام 2013 بعدم فرض الخط الأحمر الذي وضعه حالة استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي.
وواصل بايدن الموجة بعدم جعل الشرق الأوسط أولوية بل والتأكيد على محاربة الصين كمبدأ رئيسي في سياسته الخارجية. وعندما سحب ما تبقى من القوات الأمريكية في أفغانستان في خروج فوضوي، توصل قادة الشرق الأوسط إلى أن الولايات المتحدة لم تعد شريكا يعتمد عليه في المنطقة. وبسبب انكماش الاهتمام الأمريكي في الشرق الأوسط وحساسية قادته لتغير ميزان القوى فقد كانوا يبحثون ومنذ وقت عن ضامنين لأمنهم. وسارعت روسيا لمد يدها وتدخلت في الحرب الأهلية السورية عام 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد.
في وقت كانت فيه أمريكا تبحث عن تغيير الأنظمة في مصر وليبيا وسوريا. ولم تفت المقارنة قادة المنطقة بحيث أصبحت روسيا قوة الأمر الواقع في الشرق الأوسط، فيما نظر للولايات المتحدة كقوة تروج لعدم الاستقرار. ولم يؤد هذا إلى مسارعة الأنظمة إلى موسكو، فذكريات الاتحاد السوفييتي لم تختف، ولهذا مارست الدول الحذر ووضعت آمالها على انتخاب رئيس جديد في واشنطن. ومع مرور الوقت أصبحت الدولة العربية مرتاحة باستراتيجية التحوط وإقامة علاقات دافئة مع روسيا.
ولم تكن حسابات إسرائيل مختلفة، فرغم تبعيتها الكبرى على الولايات المتحدة في ضمان أمنها، إلا أن انشغال إسرائيل كان إيران، فعلى ثلاث جبهات قريبة منها وكلاء لطهران، حماس في غزة وحزب الله في لبنان والميليشيات الموالية لإيران في سوريا. وتقول إسرائيل إنها تخوض “معركة بين المعارك” لمنع نقل الأسلحة الإيرانية المتقدمة عبر سوريا إلى لبنان وإحباط محاولات فتح جبهة جديدة على حدود مرتفعات الجولان. وجعل الوجود العسكري الروسي في سوريا لاعبا في هذه الحرب، مقارنة مع الوجود الأمريكي المحدود في شمال شرق وجنوب سوريا والذي يهدف لمواجهة تنظيم الدولة.
والطريقة الوحيدة لمواصلة إسرائيل هجماتها ضد وكلاء إيران في سوريا هي موافقة روسيا على استخدامها للمجال الجوي السوري. ولهذا السبب زار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو موسكو عشر مرات ما بين 2015- 2020 لكي يقبل خاتم بوتين والحصول على تعاونه والتأكد من عدم تصادم الطيران الإسرائيلي والروسي.
وقام نفتالي بينيت بتأكيد هذه الالتزامات في زيارة لموسكو في تشرين الأول/أكتوبر 2021. وفي كانون الثاني/يناير أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن مناورة عسكرية مشتركة مع الطيران السوري فوق الجولان، وكان هذا بمثابة سهم في جعبة إسرائيل أن بوتين يمكنه إلغاء التعاون لو أراد.
ولو فكرت إسرائيل بالميل نحو الموقف الأمريكي من أوكرانيا، فقد أرسلت موسكو رسالة أنها قد تدفع ثمنا استراتيجيا باهظا. ومع ذلك فحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط ليسوا في وارد نقد الجهود الأمريكية في أوكرانيا، وهم مستعدون للعب دور من الهامش، فقطر يمكن أن تحول الغاز من زبائنها في آسيا نحو أوروبا، وربما قامت السعودية والإمارات بتخفيف الضغط على أسعار النفط حالة غزت روسيا أوكرانيا، أما إسرائيل فستواصل نقل الرسائل بين واشنطن وموسكو من أجل خفض التوتر. لكن الصمت العام لهذه الدول يقول الكثير عن الوضع الجيوسياسي في المنطقة.
وملأت روسيا الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة. ولمدى معين يرى حلفاء واشنطن في روسيا حليفا يعتمد عليه. ولا يمكن التحايل على هذه المقايضة الأساسية في ظل صعود الصين والموقف الشرس من روسيا، مما يستدعي انتباها أمريكيا. وبدلا من مطالبته لهم بمواقف علنية، فيجب التراخي معهم، وهذا يمتد أبعد من الشجب والدعم لأوكرانيا. وربما كان ثمن هذا إخراج محمد بن سلمان من قفص الاتهام لو أراد بايدن تخفيض أسعار النفط.
وكذلك وقف الضغوط على السعودية والإمارات بشأن الحرب في اليمن. وربما اضطر لتقديم الدعم لهما في جهود ردع إيران وحلفائها هناك. وبالنسبة لإسرائيل فقد يضطر بايدن لإطلاق يدها في مواجهة إيران ووكلائها في المنطقة، حتى في ظل محاولاته العودة إلى الاتفاقية النووية. وربما حل التعاون مع مصر في ملفي غزة وليبيا محل المطالب بوقف السيسي القمع ضد المعارضين في الداخل.
ويرى الكاتب ان أزمة أوكرانيا سلطت ضوءا قاسيا على التناقض الظاهري داخل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وحتى لو قللت أمريكا ممن مصالحها مما سمح لها بالتأكيد على قيمها إلا أن عودة الجيوساسية تجبر بايدن على تبني واقعية جديدة، فمهما كانت نوايا أمريكا جيدة نحو المنطقة إلا أن مصالحها تتقدم في النهاية على قيمها.